فصل: قال السمرقندي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وحقيقة فعل (طاب) اتّصاف الشيء بالملاءمة للنفس، وأصله طيب الرائحة لحسن مشمومها، وطيب الريح موافقتها للسائر في البحر: {وجرين بهم بريح طيّبة} [يونس: 22]، ومنه أيضًا ما ترضى به النفس كما تقدّم في قوله تعالى: {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالًا طيبًا} [البقرة: 168] ثم استعير لما يزكو بين جنسه كقوله: {ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب} [النساء: 2] ومنه فعل {طبن لكم عن شيء منه نفسًا} هنا أي رضين بإعطائه دون حرج ولا عسف، فهو استعارة.
وقوله: {فكلوه} استعمل الأكل هنا في معنى الانتفاع الذي لا رجوع فيه لصاحب الشيء المنتفع به، أي في معنى تمام التملّك.
وأصل الأكل في كلامهم يستعار للاستيلاء على مال الغير استيلاء لا رجوع فيه، لأنّ الأكل أشدّ أنواع الانتفاع حائلًا بين الشيء وبين رجوعه إلى مستحقّه.
ولكنّه أطلق هنا على الانتفاع لأجل المشاكلة مع قوله السابق: {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} [النساء: 2] فتلك محسّن الاستعارة.
و{هنيئًا مريئًا} حالان من الضمير المنصوب وهما صفتان مشبّهتان من هنَا وهَنِيء بفتح النون وكسرها بمعنى ساغ ولم يعقب نغصًا.
والمريء من مُرو الطعام مثلث الراء بمعنى هنىء، فهو تأكيد يُشبه الاتباع.
وقيل: الهنيء الذي يلذّه الآكل والمريء ما تحمد عاقبته.
وهذان الوصفان يجوز كونهما ترشيحًا لاستعارة {كلوه} بمعنى خذوه أخذ ملك، ويجوز كونهما مستعملين في انتفاء التبعة عن الأزواج في أخذ ما طابت لهم به نفوس أزواجهم، أي حلالًا مباحًا، أو حلالًا لا غرم فيه.
وإنّما قال: {عن شيء منه} فجيء بحرف التبعيض إشارة إلى أن الشأن أنّ لا يَعرى العقد عن الصداق، فلا تسقطه كلّه إلاّ؛ أنّ الفقهاء لمّا تأوّلوا ظاهر الآية من التبعيض، وجعلوا هبة جميع الصداق كهبته كلّه أخذًا بأصل العطايا، لأنّها لمّا قبضته فقد تقرّر ملكها إيّاه، ولم يأخذ علماء المالكية في هذا بالتهمة لأنّ مبنى النكاح على المكارمة، وإلاّ فإنّهم قالوا في مسائل البيع: إنّ الخارج من اليد ثم الراجع إليها يعتبر كأنّه لم يخرج، وهذا عندنا في المالكات أمر أنفسهنّ دون المحجورات تخصيصًا للآية بغيرها من أدلّة الحجر فإنّ الصغيرات غير داخلات هنا بالإجماع.
فدخل التخصيص للآية.
وقال جمهور الفقهاء: ذلك للثيّب والبكر، تمسّكًا بالعموم.
وهو ضعيف في حمل الآدلّة بعضها على بعض.
واختلف الفقهاء في رجوع المرأة في هبتها بعضَ صداقها: فقال الجمهور: لا رجوع لها، وقال شريح، وعبد الملك بن مروان: لها الرجوع، لأنّها لو طابت نفسها لما رجعت.
ورووا أنّ عمر بن الخطاب كتب إلى قضاته إنّ النساء يعطين رغبة ورهبة فأيّما امرأة أعطته، ثمّ أرادت أن ترجع فذلك لها وهذا يظهر إذا كان ما بين العطيّة وبين الرجوع قريبًا، وحدث من معاملة الزوج بعد العطيّة خلاف ما يؤذن حسن المعاشرة السابق للعطيّة.
وحكم هذه الآية ممّا أشار إليه قوله تعالى: {وبث منهما رجالًا كثيرًا ونساء} [النساء: 1]. اهـ.

.قال الفخر:

معنى الآية: فإن وهبن لكم شيئا من الصداق عن طيبة النفس من غير أن يكون السبب فيه شكاسة أخلاقكم معهن، أو سوء معاشرتكم معهن، فكلوه وأنفقوه، وفي الآية دليل على ضيق المسلك في هذا الباب، ووجوب الاحتياط، حيث بنى الشرط على طيب النفس فقال: {فَإِن طِبْنَ} ولم يقل: فإن وهبن أو سمحن، إعلاما بأن المراعى هو تجافي نفسها عن الموهوب طيبة. اهـ.
قال الفخر:
الهنيء والمريء: صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ، إذا كان سائغا لا تنغيص فيه، وقيل: الهنئ ما يستلذه الآكل، والمريء ما يحمد عاقبته، وقيل: ما ينساغ في مجراه، وقيل: لمدخل الطعام من الحلقوم إلى فم المعدة: المريء لمروء الطعام فيه وهو انسياغه.
وحكى الواحدي عن بعضهم أن أصل الهنيء من الهناء وهو معالجة الجرب بالقطران، فالهنيء شفاء من الجرب، قال المفسرون: المعنى أنهن إذا وهبن مهورهن من أزواجهن عن طيبة النفس لم يكن على الأزواج في ذلك تبعة لا في الدنيا ولا في الآخرة، وبالجملة فهو عبارة عن التحليل، والمبالغة في الإباحة وإزالة التبعة. اهـ.
قال الفخر:
قوله: {هَنِيئًا مَّرِيئًا} وصف للمصدر، أي أكلا هنيئا مريئا، أو حال من الضمير أي كلوه وهو هنيء مريء، وقد يوقف على قوله: {فَكُلُوهُ} ثم يبتدأ بقوله: {هَنِيئًا مَّرِيئًا} على الدعاء وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدرين كأنه قيل: هنأ مرأ. اهـ.

.قال القرطبي:

فإن شرطت عليه عند عقد النكاح ألاّ يتزوّج عليها، وحطّت عنه لذلك شيئًا من صداقها، ثم تزوّج عليها فلا شيء لها عليه في رواية ابن القاسم؛ لأنها شرطت عليه ما لا يجوز شرطه.
كما اشترط أهل بَرِيرَةَ أن تعتقها عائشة والولاء لبائعها، فصحّح النبيّ صلى الله عليه وسلم العقد وأبطل الشرط.
كذلك هاهنا يصحّ إسقاط بعضِ الصداق عنه وتبطل الزيجة.
وقال ابن عبد الحكم: إن كان بقي من صداقها مثلُ صداق مثلها أو أكثرُ لم ترجع عليه بشيء، وإن كانت وَضعت عنه شيئًا من صداقها فتزوّج عليها رجعت عليه بتمام صداق مثلها؛ لأنه شَرط على نفسه شرطًا وأخذ عنه عِوَضًا كان لها واجبًا أخذه منه، فوجب عليه الوفاء لقوله عليه السلام: «المؤمنون عند شروطهم».
وفي الآية دليل على أن العتق لا يكون صداقًا؛ لأنه ليس بمال؛ إذْ لا يمكن المرأة هبته ولا الزوج أكله.
وبه قال مالك وأبو حنيفة وزُفَر ومحمد والشافعي.
وقال أحمد بن حنبل وإسحاق ويعقوب: يكون صداقًا ولا مهر لها غير العتق؛ على حديث صفية رواه الأئمة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أعتقَها وجعل عتقَها صداقَها.
ورُوي عن أنَس أنه فَعَله، وهو راوي حديث صَفِيّة.
وأجَاب الأوّلون بأن قالوا: لا حجة في حديث صَفِيّة؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان مخصوصًا في النكاح بأن يتزوّج بغير صداق، وقد أراد زينَبَ فحُرمت على زيد فدخل عليها بغير وليّ ولا صداق.
فلا ينبغي الاستدلال بمثل هذا؛ والله أعلم. اهـ. بتصرف يسير.

.قال الفخر:

دلت هذه الآية على أمور:
منها: أن المهر لها ولا حق للولي فيه، ومنها جواز هبتها المهر للزوج، وجواز أن يأخذه الزوج، لأن قوله: {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا} يدل على المعنيين، ومنها جواز هبتها المهر قبل القبض، لأن الله تعالى لم يفرق بين الحالتين.
وههنا بحث وهو أن قوله: {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا} يتناول ما إذ كان المهر عينا، أما إذا كان دينا فالآية غير متناولة له، فإنه لا يقال لما في الذمة: كله هنيئًا مريئًا.
قلنا: المراد بقوله: {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا} ليس نفس الأكل، بل المراد منه حل التصرفات، وإنما خص الأكل بالذكر لأن معظم المقصود من المال إنما هو الأكل، ونظيره قوله تعالى: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْمًا} [النساء: 10] وقال: {لاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُمْ بالباطل} [البقرة: 188]. اهـ.
قال الفخر:
قال بعض العلماء: إن وهبت ثم طلبت بعد الهبة علم أنها لم تطب عنه نفسًا، وعن الشعبي: أن امرأة جاءت مع زوجها شريحا في عطية أعطتها إياه وهي تطلب الرجوع فقال شريح: رد عليها، فقال الرجل أليس قد قال الله تعالى: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء} فقال: لو طابت نفسها عنه لما رجعت فيه.
وروي عنه أيضا: أقيلها فيما وهبت ولا أقيله لأنهن يخدعن، وحكي أن رجلا من آل أبي معيط أعطته امرأته ألف دينار صداقا كان لها عليه، فلبث شهرا ثم طلقها، فخاصمته إلى عبد الملك بن مروان، فقال الرجل: أعطتني طيبة به نفسها، فقال عبد الملك: فإن الآية التي بعدها {فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا} اردد عليها.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه كتب إلى قضاته: إن النساء يعطين رغبة ورهبة، فأيما امرأة أعطته ثم أرادت أن ترجع فذلك لها، والله أعلم. اهـ.

.قال السمرقندي:

وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال: إذا كان أحدكم مريضًا فليسأل من امرأته درهمين من مهرها، حتى تهب له بطيبة نفسها، فيشتري بذلك عسلًا فيشربه مع ماء المطر، فحينئذٍ قد اجتمع الهنيء والمريء، والشفاء والماء المبارك، يعني أن الله سبحانه تعالى سمى المهر هنيئًا مريئًا إذا وهبت، وسمى العسل شفاء، وسمى ماء المطر مباركًا، فإذا اجتمعت هذه الأشياء يرجى له الشفاء. اهـ.

.قال أبوالسعود:

قال رحمه الله:
{وَءاتُواْ النساء} أي اللاتي أُمر بنكاحهن {صدقاتهن} جمعُ صَدُقة كسمُرة وهي المَهرُ وقرئ بسكون الدالِ على التخفيف وبضم الصادِ وسكونِ الدال جمعُ صُدْقة كغرفة، وبضمهما على التوحيد وهو تثقيلُ صُدْقة كظُلُمة في ظُلْمة {نِحْلَةً} قال ابن عباس وقتادة وابن جريج وابن زيد: فريضةً من الله تعالى لأنها مما فرضه الله في النِحْلة أي المِلةِ والشِرْعة والديانةِ، فانتصابُها على الحالية من الصَّدُقات أي أعطوهن مهورَهن حالَ كونِها فريضةً منه تعالى، وقال الزجاجُ: تديُّنًا فانتصابُها على أنها مفعولٌ له أي أعطوهن ديانةً وشِرْعيةً، وقال الكلبي: نحلةً أي هِبةً وعطيةً من الله وتفضّلًا منه عليهن فانتصابُه على الحالية منها أيضًا وقيل: عطيةً من جهة الأزواجِ من نَحَله كذا إذا أعطاه إياه ووهبَه له عن طِيبةٍ من نفسه نِحْلةً ونُحْلًا، والتعبير عن إيتاء المهورِ بالنِّحلة مع كونها واجبةً على الأزواج لإفادة معنى الإيتاءِ عن كمال الرضا وطيبِ الخاطرِ، وانتصابُها على المصدرية لأن الإيتاءَ والنحلةَ بمعنى الإعطاءِ، كأنه قيل: وانحَلوا النساءَ صَدُقاتِهن نِحْلةً أي أعطوهن مهورَهن عن طيبةِ أنفسِكم، أو على الحالية من ضمير {أَتَوْا} أي آتوهن صَدُقاتِهن ناحلين طيِّبي النفوسِ بالإعطاء أو من الصَّدُقات أي منحولةً مُعطاةً عن طيبة الأنفسِ، فالخطابُ للأزواج وقيل: للأولياء لأنهم كانوا يأخُذون مهورَ بناتِهم وكانوا يقولون: هنيئًا لك النافجةُ، لِمَن يولدُ له بنتٌ، يعنون تأخُذ مَهرَها فتنفج به مالَك أي تعظّمه {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شيء مّنْهُ} الضميرُ للصدُقات وتذكيرُه لإجرائه مُجرى ذلك فإنه يشار به إلى المتعدد كما في قوله عز وجل: {قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذلكم} بعد ذكر الشهواتِ المعدودةِ وقد رُوي عن رؤبةَ أنه حين قيل له في قوله:
فيها خطوطٌ من سوادٍ وبَلَق ** كأنه في الجِلْد تَوليعُ البَهَقْ

إن أردت الخطوطَ ينبغي أن تقول: كأنها وإن أردت السوادَ والبلَقَ ينبغي أن تقول: كأنهما، قال: لكني أردتُ كأن ذلك. أو للصَّداق الواقعِ موقعَه صدُقاتِهن كأنه قيل: وآتوا النساءَ صَداقَهن كما في قوله تعالى: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن} حيث عَطفَ أكنْ على ما دل عليه المذكورُ ووقع موقعَه، كأنه قيل: إن أخرتني أصَّدقْ وأكنْ، واللامُ متعلقةٌ بالفعل وكذا عن لكن بتضمينه معنى التجافي والتجاوزِ، ومن متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً لشيء أي كائنٍ من الصَّداق، وفيه بعثٌ لهن على تقليل الموهوبِ {نَفْسًا} تمييزٌ والتوحيدُ لما أن المقصودَ بيانُ الجنسِ أي إن وهَبْن لكم شيئًا من الصَّداق متجافيًا عنه نفوسُهن طيباتٍ غيرَ مُخْبثاتٍ بما يَضطرُّهن إلى البذل من شكاسة أخلاقِكم وسوءِ معاشرتِكم لهن، عَدَل عن لفظ الهبةِ والسماحةِ إلى ما عليه النظمُ الكريمُ إيذانًا بأن العُمدة في الأمر إنما هو طيبُ النفسِ وتجافيها عن الموهوب بالمرة {فَكُلُوهُ} أي فخذوا ذلك الشيءَ الذي طابت به نفوسُهن وتصرفوا فيه تملُّكًا، وتخصيصُ الأكلِ بالذكر لأنه معظمُ وجوهِ التصرفاتِ المالية {هَنِيئًا مَّرِيئًا} صفتان من هنُؤَ الطعامُ ومرُؤَ إذا كان سائغًا لا تنغيصَ فيه، وقيل: الهنيءُ الذي يلَذُّه الآكِلُ والمريءُ ما يُحمد عاقبتُه، وقيل: ما ينساغ في مجراه الذي هو المريءُ وهو ما بين الحُلْقوم إلى فم المعِدةِ سُمِّي بذلك لمروءِ الطعامِ فيه أي انسياغِه، ونصبُهما على أنهما صفتانِ للمصدر أي أكلًا هنيئًا مريئًا أو على أنهما حالانِ من الضمير المنصوبِ أن كُلوه وهو هنيءٌ مريءٌ وقد يوقف على كلوه، ويبتدأ هنيئًا مريئًا على الدعاء وعلى أنهما صفتان أقيمتا مُقامَ المصدرين، كأنه قيل: هنْأً ومَرْأً، وهذه عبارةٌ عن التحليل والمبالغةِ في الإباحة وإزالةِ التبعة. اهـ.